جبل التحولات
دخلت الزراعة في جبل لبنان حالة الموت السريري. الأسباب كثيرة لهذا الواقع، ليس أقلها إهمال الدولة المزمن واعتناق سياسات اقتصادية تحفّز الاقتصاد الريعي وشريعة السوق وفتح الأبواب لاستيراد الغذاء بدلاً من إنتاجه. وبرغم أن جبل لبنان يتلقى كميات وافرة من الأمطار، ما يجعله خزان لبنان المائي، إلا أن البنى التحتية فيه لا تزال على حالتها البدائية، فهي لم تتطور فعلياً منذ أيام أخوت شاناي. وفي ما يخص الإنتاج الحيواني، وخصوصاً تربية الماعز، شهد هذا القطاع انحساراً أتى نتيجة صعوبة العمل وغياب المراقبة البيطرية وجميع أشكال المساعدة. هنا، يتحدث رعاة الماعز في الجبل عن انحسار الطلب على حليب الماعز ومشتقاته وعن التبدل في نمط الاستهلاك والانتقال من الغذاء المحلي إلى الأطعمة الجاهزة المستوردة، كلحم البقر وحليب «البودرة» والأجبان المعلبة. وقد أدت هذه العوامل إلى تغيير جهة استعمال الأراضي من الإنتاج إلى الريع، ومعها تحوّل الجبل بكامله إلى مساحة استثمار عقارية كامنة، ينتظر الجيل الجديد فرصة بيعها الذهبية لتدرّ عليه المال الوافر وتساعده على الانتقال للعيش في المدينة حيث توجد فرص العمل في قطاع الخدمات. وهذا الواقع سيسهم حتماً في تبدل طبيعة الأرض. على سبيل المثال، هناك كارثة حقيقية تصيب الأراضي الجبلية المدرّجة (المجللة) التي يعود بعضها إلى أكثر من 2000 سنة والتي بناها الفلاحون بأيديهم ليستصلحوا الأرض ويزرعوها. فها هي اليوم في حالة تدهور مبكية، وقد جرفتها الأمطار وحولتها إلى مساحات «سليخ» تنتظر أنياب الرفش الآلي ليحرثها مرة أخيرة ويزرع فيها فيلا أو مجمعاً سكنياً. وبين هذا وذاك، يتحسّر الجيل القديم على أيام العز، بينما يبحث الجيل الصاعد عن دواليب قديمة يعبّر فيها عن يأسه. يا له من زمن!