مئات ألوف مربي الأبقار الحلوب في أوروبا يتظاهرون منذ أسابيع. منذ أيام، قرروا معاً سكب ملايين ليترات الحليب في الحقول وعلى الطرقات، فطافت هذه ببياض لم يكن أبداً مبهجاً. روت تراب مناطق زراعية عريقة، أو ملأت، كبحيرة صغيرة، ساحة تقع أمام مجلس الاتحاد الأوروبي. المعادلة بسيطة: سعر بيع الحليب لشركات التصنيع والتوزيع الكبرى أدنى من كلفة إنتاجه. والاتجاه لترك السوق يحدد السعر، عبر إلغاء الكوتا، كما ينوي الاتحاد الأوروبي عام 2015، يعامل الغذاء كأي سلعة أخرى. عشرات من مربي الأبقار الحلوب، كلهم من الشباب، انتحروا ضيقاً بالخراب الذي لحق بهم، تماماً مثلما ينتحر يومياً في أوروبا موظفون بسطاء في مؤسسات عامة تجرى خصخصتها، أو مستخدمون وعمال في مؤسسات خاصة تحتج بالأزمة المالية العالمية لتصرف من الخدمة على نطاق واسع. ومن فرط تكرار حوادث الانتحار، أنشأت في بعض المؤسسات وحدات خاصة. ترى ماذا ستقول لهؤلاء الذين يجدون أنفسهم فجأة في العراء، في بلدان لا قيمة للإنسان، ولا وجود له، خارج العمل والاستهلاك، وفي بلدان انتهت فيها التضامنات «قبل - الحديثة»، العائلية والأحيائية، أو باتت محدودة جداً.
في فرنسا، أعلن مطلع الشهر الجاري أن رئيس واحد من أبرز بنوكها، ومديره العام، نالا مكافآت فائض قيمة تصل إلى مليون يورو. لكنهما تبرعا بنصفها لجمعية تنظِّم التسليف المتناهي الصغر. يا لكرمهما! في الربيع الفائت، أثناء عز الأزمة المالية العالمية، حاول هذان، مع مدراء بنوك آخرين، تخصيص نفسيهما بمثل هذه العوائد، مما استدعى وقتها تدخل رئيس الجمهورية شخصياً، الذي «أقنعهما» وزملاءهما بالتخلي عن الممارسة الفاضحة بينما تدعم الخزينة العامة البنوك منعاً لاهتزازها. يبدو أن الزمن يساعد حقاً على النسيان. وحدهما نالا هذا المبلغ، بينما قررت الحكومة الفرنسية، رداً على «تحرك الحليب» كما بات يسمى، منح مساعدة تبلغ 30 مليون يورو لمئة ألف مربي أبقار، هم من تبقى في المهنة التي كانت تضم نصف مليون عام 1984... أي، 300 يورو لكل منهم!!
كما فاوض وزير الزراعة البنوك إياها، وتمكن من انتزاع 250 مليون يورو كقروض ميسرة. يرد المربون أن القروض، حتى الميسرة، لا تحل المشكلة، بل تفاقمها، وأنهم يريدون مداخيل وليس مساعدات عابرة أو ديوناً إضافية.
تصطدم هنا عوالم عدة: نمط إنتاج فلاحي، وإن ممكنن ومحدّث، مقابل المصانع الإنتاجية الكبيرة القائمة في بلدان كهولندا والدنمارك، حيث لم يعد للأبقار الحلوب علاقة بالأرض وبالمرعى، بل باتت تولد وتربى وتحلب في بنايات من الإسمنت، وتأكل علفاً صناعياً مدراً للحليب، وتحقن بكل أنواع المواد الكيماوية. في مجلس الاتحاد الأوروبي، تنقسم المواقف من الأزمة وفق هذا المعطى، وتبرز تناقضات حادة تؤشر إلى تفاوت في درجة اللبرلة بين بلدانه. الاصطدام الثاني يجري بين المنتجين المباشرين ووسطائهم إلى التسويق، الشركات الكبرى، ومعظمها عابر للجنسيات، التي تشتري الحليب منهم وتصنعه، فتضعه في قنانٍ توزعها في السوق، أو تصنع منه الأجبان وسواها من المنتجات المشتقة، وتجففه وترسله حليب بودرة إلى البلدان الفقيرة من العالم، إلى أفريقيا والشرق الأوسط بالنسبة إلى أوروبا، بينما تتكفل الصين بالمناطق الآسيوية... وتسعى إلى توسيع سوقها، حيث تدور هنا أيضاً رحى معركة طاحنة... ولكن هذا موضوع آخر.
أما الاصطدام الثالث، فيجرى بين المنتجين من جهة، ومستغليهم من جهة أخرى، والهيئات العامة في البلدان الأوروبية في مقابلهما، والواقعة بين ناري مصالح متناقضة. وهي تميل بالطبع إلى اعتماد وجهة نظر الشركات الكبرى، ولذا تعامل مطالب المنتجين بطريقة تسكين الألم، بانتظار أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، أي أن يزول هؤلاء من الوجود، بالانهيار والإفلاس، أو، وكما يُقترح عليهم بلا توقف، بمساعدتهم على التحول إلى نشاطات أخرى.
وهناك رابعاً الموقف منظوراً إليه من خارج أوروبا. فمشهد الحليب المسكوب هكذا على الطرقات يثير سؤال الغذاء في العالم، حيث يموت كل يوم عشرون ألف إنسان من الجوع بمعناه الحرفي، وحيث يعاني 900 مليون إنسان من سوء التغذية الحاد. قال رئيس إحدى النقابات الفلاحية الفرنسية انه اتصل بمنظمات إنسانية عالمية قبل اتخاذ قرار سكب الحليب على الطرقات، وعرض عليها إعطاءها الحليب مجاناً لنقله إلى الجياع في العالم، فرفضت جميعها لثقل العملية وكلفتها الباهظة، إلا واحدة تعمل في بوركينا فاسو. «الكونفيدرالية الفلاحية»، وهي نقابة فرنسية يسارية، عضو في النقابة العالمية «الطريق الفلاحي»، وأحد أبرز مطلقي حركة العولمة البديلة ومؤسسي المنتديات الاجتماعية، كانت تعرف تماماً أن الفقراء لا يوجدون في بلدان بعيدة. بل أن أفريقيا في قلب باريس. قررت الكونفيدرالية تنظيم عملية توزيع محدودة جداً في ساحة أحد أحياء العاصمة. وما إن وصلت الشاحنة التي تحمل 22 ألف ليتر حليب، حتى فاضت في المكان جموع المعدمين تحمل ما تيسر من الأوعية، وتريد حليباً. ولو توافرت عشرات آلاف ليترات أخرى من الحليب، لوجدت من يتمناها...
تدمير الإنتاج من قبل أصحابه، أو منحه مجاناً، يحمل دلالة واقعية ورمزية في آن. لكنه هنا يختلف عن تدمير المانيفكتورات مع هيمنة الصناعة الكبيرة. تلك توصف بالحركة المعاكسة للتاريخ، والرجعية بالتالي. أما حين يتعلق الأمر بالغذاء، فمقاربة مختلفة تفرض نفسها. فالغذاء أساس الحياة البيولوجية للإنسان، وهو من دون سائر السلع، لا يمكن الاستغناء عنه. أما الدعوة إلى ترك السوق ينظم إنتاجه وتداوله، فيعني أن العشرين ألف ضحية يومية سيصبحون بسرعة أضعافاً مضاعفة. وأما ترك الغذاء في يد الشركات الصناعية الكبرى، فيعني تعميم نموذج شركة «مونسانتو» العملاقة: منتجات معدلة جينياً لتوفّر أعلى نسب أرباح، تقضي على التوازن البيئي بسرعة هائلة، وتنشر بين الناس الأمراض المستعصية، جديدها وقديمها، فتتكفل بالقضاء على الفائض منهم، تماماً كما كان يفعل الطاعون في الزمن الفائت، وبنى إنتاجية متخلعة تقوم على لا مكان، تكسر كل الأطر الدولتية والمجتمعية، وتفجر النزاع بين هؤلاء البشر الفائضين عن الحاجة، حروباً داخلية وإقليمية لا تتوقف، تقضي على من نجا منهم من تلك الأمراض! عالم متوحش باسم الحداثة. هنا يكتسب كل معناه المطلب الفلاحي - الذي يبدو أن الحكومة الفرنسية لا تعارضه ولكنها مرتبكة حياله، و «تضيّع المشيتين»، بأن تؤسس على المستوى العالمي، وكذلك الأوروبي، هيئات عليا رسمية تتولى الإشراف على الإنتاج الغذائي. فيكون العالم قد تعلم شيئاً من الأزمة المالية التي تعصف به، وبدأ بإعادة ترتيب أولياته، وإن محدودة.
No comments:
Post a Comment